كان أبو خليل القباني هو رائد المسرح العربي في سوريا ،وإليه يرجع الفضل
الأكبر في وضع أسس المسرح الغنائي العربي ، حيث نقل الأغنية من على التخت الشرقي
لكي يضعها فوق المسرح التمثيلي ، فأصبحت الأغنية بذلك جزءا من العرض المسرحي
. ولقد استمد القباني مسرحياته ، التي يبلغ عددها ثلاثين مسرحية ، من التراث
العربي والتاريخ الإسلامي ، فيما عدا مسرحية واحدة ، هي مسرحية (متريدات) التي
ترجمها عن الفرنسية عن الكاتب الكلاسيكي الشهير راسين .
والطابع الغالب على هذه
المسرحيات هو الإنشاد الفردي والجماعي ، بالإضافة إلى الرقص العربي السماعي ، حيث
كان القباني من أكبر أساتذة الموسيقى العربية علما وتلحينا وبراعة أداء ، وفضلا عن
ذلك ، كان أديبا وشاعرا . ويعتقد أن القباني المنتمي إلى أسرة تركية ، قد تأثر
بالمسرح التركي ، وبما كان يمثل على مسرح ميخائيل نعوم من أوبرات وموسيقيات
وكوميديات أكثر مما تأثر بالمسرح اللبناني أو بالمسرح الأوروبي . خاصة وأن نعوم
هذا كان يدير أكبر مسرح في عاصمة الخلافة العثمانية منذ سنة 1844 حتى سنة 1870 ،
وأن القباني لم يكن يتقن أيا من اللغات الأوروبية ، وإنما كانت لغته الثانية هي
اللغة التركية التي ترجمت إليها قبل ظهوره ، مسرحيات كورني وراسين وموليير وجولدوني
، فضلا عن الأوبرات التي كانت تقدم على مسارح استنبول ومنها مسرح بوسكو ، ومسرح
فروي ، والأوديون ، والشرق ، والحمراء ، والكازار ، وقاضي كوى ، كل هذا وكان
القباني لا يزال في الخامسة عشر من عمره . وفي الثلاثين من عمره كان القباني قد
استكمل معرفته بالمسرح التركي واللبناني ، وظهرت براعته في التلحين والغناء ورقص
السماع ، التي اقتبسها من أستاذه الشيخ أحمد عقيل الحلبي ، أقدم على تأليف مسرحيته
" ناكر الجميل " التي جمع فيها بين ألوان التمثيل والغناء والموسيقى ، واستمر في
التأليف والاقتباس مستمدا موضوعاته من تراث العرب القدامى في القصص الشعبي ، ومما
ترجم واقتبس في لبنان وفي تركيا من روائع المسرح الغربي . اندفع القباني في
نشاطه المسرحي بتشجيع من الولاة الأتراك وخاصة صبحي باشا ومدحت باشا أبي الأحرار ،
ولكن حملات الرجعية اشتدت عليه حتى نالت منه ، عندما وشوا به إلى السلطان عبد
الحميد ، وأوهموه أنه يفسد النساء والغلمان ، وينشر الفسق والدعارة ، فأمر السلطان
بغلق مسرحه ، فارتحل إلى مصر ، حيث أسهم مع زملائه اللبنانيين في نشاط المسرح
المصري المزدهر في ذلك الحين . ومن أهم مسرحياته وأكثرها شهرة .. " هارون الرشيد
" ، " عنترة بن شداد " ، و " السلطان حسن " ، و" أبو جعفر المنصور " ، "ملتقى
الخليفتين " ، " أنس الجليس " ، "الولادة " وهي جميعها مسرحيات فيها جدة في الأسلوب
، وفصاحة في العبارة ، وطرافة في الحوار ، وأن تأرجح السياق اللغوي بين النظم
والنثر ، كما هو الحال في مسرحيات النقاش ومن حذا حذوه . وربما كان القباني يقصد
من وراء هذا ، إلى إقامة وشائج قربى ولو في الأسلوب والمظهر ، بين المسرحية الناشئة
الدخلية ، وبين ألوان الأدب العربي القديمة والأصيلة ، وفوق هذا وذاك ، فإن عامة
هذه المسرحيات كما يقول زكي طليمات ، لم تكن مقصورة على فن التمثيل فحسب ، بل
تجاوزتها إلى صميم الموسيقى والرقص حيث استقام خلط الكلام بالغناء بشكل أتم وأبرز
مما ورد في المسرحيات الأولى ، كما أنه فتح المجال لنوع من الرقص العربي الجماعي
القائم على السماع ، مما جعل منه بحق رائد المسرحية الغنائية القصيرة أو الأوبريت
في المسرح العربي .
|